فصل: فصل:فيما يفعله الحاج يوم التروية ويوم عرفة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

فإذا كان يوم التروية، أحرم وأهل بالحج، فيفعل كما فعل عند /الميقات، وإن شاء أحرم من مكة، وإن شاء من خارج مكة، هذا هو الصواب‏.‏ وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرموا كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم من البطحاء، والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه، وكذلك المكي يحرم من أهله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان منزله دون مكة فمهلُّه من أهله، حتي أهل مكة يهلون من مكة‏)‏‏.‏

والسنة أن يبيت الحاج بمني؛ فيصلون بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر، ولا يخرجون منها حتي تطلع الشمس، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وأما الإيقاد فهو بدعة مكروهة باتفاق العلماء‏.‏ وإنما الإيقاد بمزدلفة خاصة بعد الرجوع من عرفة، وأما الإيقاد بمني أو عرفة فبدعة أيضًا‏.‏

ويسيرون منها إلى نمرة على طريق ضب، من يمين الطريق، و‏[‏نمرة‏]‏ كانت قرية خارجة عن عرفات من جهة اليمين، فيقيمون بها إلى الزوال، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي، وهو موضع النبي صلى الله عليه وسلم؛ الذي صلى فيه الظهر والعصر، وخطب، وهو في حدود عرفة ببطن عرنة‏.‏ وهناك مسجد يقال له‏:‏ مسجد إبراهيم، وإنما بني في أول دولة /بني العباس‏.‏

فيصلي هناك الظهر والعصر قصرًا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ويصلي خلفه جميع الحاج‏:‏ أهل مكة وغيرهم قصرًا وجمعا، يخطب بهم الإمام كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم على بعيره، ثم إذا قضي الخطبة أذن المؤذن وأقام، ثم يصلي كما جاءت بذلك السنة، ويصلي بعرفة ومزدلفة ومني قصرًا، ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة‏.‏

وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومني، كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومني، وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومني أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر، ومن حكي ذلك عنهم فقد أخطأ، ولكن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في غزوة الفتح، لما صلى بهم بمكة‏.‏

وأما في حجه، فإنه لم ينزل بمكة، ولكن كان نازلا خارج مكة، وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى مني وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمني أيام مني صلوا معه، ولم يقل لهم‏:‏ أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ولم يحد النبي /صلى الله عليه وسلم السفر لا بمسافة، ولا بزمان، ولم يكن بمني أحد ساكنًا في زمنه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏مني مناخ من سبق‏)‏، ولكن قيل‏:‏ إنها سكنت في خلافة عثمان، وأنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة ؛ لأنه كان يري أن المسافر من يحمل الزاد والمزاد‏.‏

ثم بعد ذلك يذهب إلى عرفات‏.‏ فهذه السنة ، لكن في هذه الأوقات لا يكاد يذهب أحـد إلى نمـرة‏.‏ ولا إلى مصلي النبي صلى الله عليه وسلم، بل يدخلون عرفات بطريق المأزمين، ويدخلونها قبـل الزوال، ومنهم مـن يدخلها ليـلا، ويبيتون بها قبـل التعـريف، وهـذا الذي يفعلـه الناس كلـه يجزي معه الحج، لكن فيه نقص عن السنة، فيفعل ما يمكن من السنة مثل الجمع بين الصـلاتين، فيـؤذن أذانا واحـدًا ويقيم لكل صلاة، والإيقاد بعرفة بدعـة مكروهة، وكذلك الإيقاد بمني بدعة، باتفاق العلماء، وإنما يكون الإيقاد بمزدلفة خاصة في الرجوع‏.‏

ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس، ولا يخرجون منها حتي تغرب الشمس، وإذا غربت الشمس يخرجون إن شاؤوا بين العلمين، وإن شاؤوا من جانبيهما‏.‏ والعلمان الأولان حد عرفة، فلا يجاوزونهما حتي تغرب الشمس، والميلان بعد ذلك حد مزدلفة، وما بينهما بطن عرفة‏.‏

ويجتهد في الذكر والدعاء هذه العشية، فإنه ما رؤي إبليس في/ يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحض من عشية عرفة،لما يري من تنزيل الرحمة، وتجاوز الله سبحانه عن الذنوب العظام، إلا ما رؤي يوم بدر، فإنه رأي جبريل يزع الملائكة‏.‏

ويصح وقوف الحائض، وغير الحائض‏.‏

ويجوز الوقوف ماشيا، وراكبًا‏.‏ وأما الأفضل فيختلف باختلاف الناس، فإن كان ممن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه، أو كان يشق عليه ترك الركوب وقف راكبًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكبًا‏.‏

وهكذا الحج، فإن من الناس من يكون حجه راكبًا أفضل، ومنهم من يكون حجه ماشيا أفضل، ولم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة دعاء، ولا ذكرًا، بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية، وكذلك يكبر ويهلل ويذكر الله تعالى حتي تغرب الشمس‏.‏

والاغتسال لعرفة قد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عمر، وغيره، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال‏:‏ غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة‏.‏ وما سوي ذلك كالغسل لرمي الجمار، وللطواف،والمبيت بمزدلفة فلا أصل له، لا عن النبي / صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة؛ لا مالك، ولا أبوحنيفة، ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه، بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب، مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها، فيغتسل لإزالتها‏.‏

وعرفة كلها موقف، ولا يقف ببطن عرنة، وأما صعود الجبل الذي هناك فليس من السنة، ويسمي جبل الرحمة، ويقال له إلال على وزن هلال، وكذلك القبة التي فوقه التي يقال‏:‏ لها قبة آدم، لا يستحب دخولها، ولا الصلاة فيها‏.‏ والطواف بها من الكبائر، وكذلك المساجد التي عند الجمرات لا يستحب دخول شيء منها، ولا الصلاة فيها‏.‏ وأما الطواف بها أو بالصخرة، أو بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان غير البيت العتيق، فهو من أعظم البدع المحرمة‏.‏

 فصل

فإذا أفاض من عرفات ذهب إلى المشعر الحرام على طريق المأزمين وهو طريق الناس اليوم، وإنما قال الفقهاء‏:‏ على طريق المأزمين؛ لأنه إلى عرفة طريق أخرى تسمي طريق ضب، ومنها دخل النبي / صلى الله عليه وسلم إلى عرفات، وخرج على طريق المأزمين‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم في المناسك والأعياد يذهب من طريق ويرجع من أخري، فدخل من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلي‏.‏ ودخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج بعد الوداع من

باب جزورة اليوم‏.‏ ودخل إلى عرفات من طريق ضب، وخرج من طريق المأزمين وأتي إلى جمرة العقبة ـ يوم العيد ـ من الطريق الوسطي التي يخرج منها إلى خارج مني، ثم يعطف على يساره إلى الجمرة،ثم لما رجع إلى موضعه بمني الذي نحر فيه هديه، وحلق رأسه، رجع من الطريق المتقدمة التي يسير منها جمهور الناس اليوم‏.‏

فيؤخر المغرب إلى أن يصليها مع العشاء بمزدلفة، ولا يزاحم الناس، بل إن وجد خلوة أسرع، فإذا وصل إلى المزدلفة صلى المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن، ثم إذا بركوها صلوا العشاء، وإن أخر العشاء لم يضر ذلك، ويبيت بمزدلفة، ومزدلفة كلها يقال لها‏:‏ المشعر الحرام، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر‏.‏

فإن بين كل مشعرين حدًا ليس منهما، فإن بين عرفة ومزدلفة بطن عرنة، وبين مزدلفة ومني بطن محسر‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، ومزدلفة كلها /موقف، وارفعوا عن بطن محسر، ومني كلها منحر، وفجاج مكة كلها طريق‏)‏‏.‏

والسـنة أن يبيت بمـزدلفة إلى أن يطـلع الفجر، فيصـلي بها الفجـر في أول الوقت، ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جـدًا قبل طلـوع الشمس، فـإن كان مـن الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى مني إذا غاب القمر، ولا ينبغي لأهل القوة أن يخـرجوا مـن مـزدلفـة حتي يطلع الفجـر، فيصلوا بها الفجـر، ويقفوا بها، ومزدلفة كلها موقف، لكن الوقوف عند قزح أفضل، وهو جبل الميقدة، وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم‏.‏ وقد بني عليـه بناء، وهـو المكان الذي يخصـه كثير مـن الفقهاء باسـم المشعـر الحرام‏.‏

فـإذا كان قبل طلوع الشمس أفاض من مزدلفة إلى مني ، فإذا أتي محسرًا أسرع قدر رمية بحجر، فإذا أتي مني رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ويرفع يده في الرمي، وهي الجمـرة التي هي آخر الجمرات من ناحية مني، وأقربهن من مكة، وهي الجمرة الكبري، ولا يرمي يـوم النحـر غيرهـا ، يرميها مسـتقبلا لها يجعل البيت عن يساره، ومني عن يمينه، هـذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال مع ذلك‏:‏ اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيا مشكورا، وذنبًا مغفورا، ويرفع يديه /في الرمي‏.‏

ولا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر، مثل ذهابه إلى عرفات، وذهابه من عرفات إلى مزدلفة، حتي يرمي جمرة العقبة، فإذا شرع في الرمي قطع التلبية، فإنه حينئذ يشرع في التحلل‏.‏

والعلماء في التلبية على ثلاثة أقوال‏:‏ منهم من يقول‏:‏ يقطعها إذا وصل إلى عرفة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بل يلبي بعرفة وغيرها إلى أن يرمي الجمرة‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أنه إذا أفاض من عرفة إلى مزدلفة لبي، وإذا أفاض من مزدلفة إلى مني لبي حتي يرمي جمرة العقبة، وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 فصل

وأما التلبية في وقوفه بعرفة، ومزدلفة، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم كانوا يلبون بعرفة، فإذا رمي جمرة العقبة نحر هديه إن كان معه هدي، ويستحب أن تنحر الإبل مستقبلة القبلة، قائمة، معقولة اليد اليسري، والبقر والغنم يضجعها على شقها الأيسر، مستقبلا بها القبلة، ويقول‏:‏ بسم الله، والله أكبر، اللهم منك ولك، اللهم تقبل مني، كما تقبلت من /إبراهيم خليلك‏.‏

وكل ما ذبح بمني، وقد سيق من الحل إلى الحرم فإنه هدي، سواء كان من الإبل ، أو البقر أو الغنم، ويسمي ـ أيضا ـ أضحية، بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل، فإنه أضحية، وليس بهدي‏.‏ وليس بمني ما هو أضحية وليس بهدي، كما في سائر الأمصار‏.‏ فإذا اشتري الهدي من عرفات وساقه إلى مني فهو هدي باتفاق العلماء، وكذلك إن اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم، وأما إذا اشتري الهدي من مني وذبحه فيها، ففيه نزاع؛ فمذهب مالك أنه ليس بهدي، وهو منقول عن ابن عمر، ومذهب الثلاثة أنه هدي، وهو منقول عن عائشة‏.‏

وله أن يأخذ الحصي من حيث شاء، لكن لا يرمي بحصي قد رمي به، ويستحب أن يكون فوق الحمص، ودون البندق، وإن كسره جاز‏.‏ والتقاط الحصي أفضل من تكسيره من الجبل‏.‏

ثم يحلق رأسه، أو يقصره، والحلق أفضل من التقصير، وإذا قصره جمع الشعر وقص منه بقدر الأنملة، أو أقل، أو أكثر، والمرأة لا تقص أكثر من ذلك‏.‏ وأما الرجل فله أن يقصر ما شاء‏.‏

وإذا فعل ذلك فقد تحلل باتفاق المسلمين التحلل الأول، فيلبس الثياب، ويقلم أظفاره، وكذلك له على الصحيح أن يتطيب ، ويتزوج، وأن / يصطاد، ولا يبقي عليه من المحظورات إلا النساء‏.‏

وبعد ذلك يدخل مكة فيطوف طواف الإفاضة، إن أمكنه ذلك يوم النحر وإلا فعله بعد ذلك، لكن ينبغي أن يكون في أيام التشريق، فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع‏.‏ ثم يسعي بعد ذلك سعي الحج، وليس على المُفْرِد إلا سعي واحد، وكذلك القارن عند جمهور العلماء، وكذلك المتمتع في أصح أقوالهم، وهو أصح الروايتين عند أحمد، وليس عليه إلا سعي واحد، فإنه الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف‏.‏

فإذا اكتفي المتمتع بالسعي الأول أجزأه ذلك، كما يجزئ المفرد، والقارن، وكذلك قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل‏:‏ قيل لأبي‏:‏ المتمتع كم يسعي بين الصفا والمروة‏؟‏ قال‏:‏ إن طاف طوافين ـ يعني بالبيت، وبين الصفا والمروة ـ فهو أجود، وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس، وإن طاف طوافين فهو أعجب إلي‏.‏ وقال أحمد‏:‏ حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، أنه كان يقول‏:‏ المفرد والمتمتع يجزئه طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة‏.‏

وقد اختلفوا في الصحابة المتمتعين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع اتفاق الناس على أنهم طافوا أولا بالبيت، وبين الصفا والمروة لما رجعوا من عرفة، قيل‏:‏ إنهم سعوا ـ أيضا ـ بعد طواف الإفاضة، /وقيل‏:‏ لم يسعوا، وهذا هو الذي ثبت في صحيح مسلم عن جابر، قال‏:‏ لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، طوافه الأول‏.‏ وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين‏.‏ لكن هذه الزيادة قيل‏:‏ إنها من قول الزهري، لا من قول عائشة، وقد احتج بها بعضهم على أنه يستحب طوافان بالبيت، وهذا ضعيف‏.‏ والأظهر ما في حديث جابر‏.‏ ويؤيده قوله‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ فالمتمتع من حين أحرم بالعمرة دخل بالحج، لكنه فصل بتحلل ليكون أيسر على الحاج، وأحب الدين إلى اللّه الحنيفية السمحة‏.‏

ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف، بل هذا الطواف هو السنة في حقه، كما فعل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا طاف طواف الإفاضة، فقد حل له كل شيء، النساء وغير النساء‏.‏

وليس بمني صلاة عيد، بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل جمعة ولا عيدا في السفر، لا بمكة ولا عرفة، بل كانت خطبته بعرفة خطبة نسك، لا خطبة جمعة، ولم يجهر بالقراءة في الصلاة بعرفة‏.‏

/ فصل

ثم يرجع إلى مني فيبيت بها، ويرمي الجمرات الثلاث، كل يوم بعد الزوال، يبتدي بالجمرة الأولي التي هي أقرب إلى مسجد الخِيف‏.‏ ويستحب أن يمشي إليها فيرميها بسبع حصيات‏.‏ ويستحب له أن يكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال‏:‏ اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا‏.‏ ويستحب له إذا رماها أن يتقدم قليلا إلى موضع لا يصيبه الحصي، فيدعو اللّه تعالي، مستقبل القبلة، رافعًا يديه بقدر سورة البقرة‏.‏

ثم يذهب إلى الجمرة الثانية فيرميها كذلك، فيتقدم عن يساره يدعو مثل مافعل عند الأولي‏.‏

ثم يرمي الثالثة، وهي جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات أيضًا ولا يقف عندها‏.‏

ثم يرمي في اليوم الثاني من أيام مني مثل ما رمي في الأول، ثم إن شاء رمي في اليوم الثالث، وهو الأفضل، وإن شاء تعجل في اليوم الثاني بنفسه قبل غروب الشمس، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏

فإذا غربت الشمس وهو بمني أقام حتي يرمي مع الناس في اليوم الثالث، ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك، بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث، والسنة للإمام أن يصلي بالناس بمني، ويصلي خلفه أهل الموسم‏.‏

ويستحب ألا يدع الصلاة في مسجد مني ـ وهو مسجد الخيف ـ مع الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون بالناس قصرًا بلا جمع بمني، ويقصر الناس كلهم خلفهم أهل مكة، وغير أهل مكة‏.‏ وإنما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يا أهل مكة، أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر‏)‏ لما صلى بهم بمكة نفسها‏.‏ فإن لم يكن للناس إمام عام صلى الرجل بأصحابه، والمسجد بني بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن على عهده‏.‏

ثم إذا نفر من مني فإن بات بالمحصب ـ وهو الأبطح، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة ـ ثم نفر بعد ذلك فحسن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات به، وخرج‏.‏ ولم يقم بمكة بعد صدوره من مني، لكنه ودع البيت، وقال‏:‏ ‏(‏لا ينفرن أحد حتي يكون آخر عهده بالبيت‏)‏ فلا يخرج الحاج حتي يودع البيت، فيطوف طواف الوداع، حتي يكون /آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه‏.‏

وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتي يكون بعد جميع أموره، فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، لكن إن قضي حاجته، أو اشتري شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته، ونحو ذلك، مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، لكن يسقط عن الحائض‏.‏

وإن أحب أن يأتي الملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود والباب، فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه، ويدعو، ويسأل اللّه تعالى حاجته، فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طـواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غـيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلـون مكة، وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسـيرتني في بلادك، حتي بلغتنـي بنعمتك إلى بيتـك، وأعنـتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن فارض عني، قبل أن تنأي عن بيتك داري، فهـذا أوان انصـرافي إن أذنت لي، غيـر مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغب عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في /جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير‏)‏ ولو وقف عند ال

باب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنا‏.‏

فإذا ولَّي لا يقف، ولا يلتفت، ولا يمشي القهقري‏.‏ قال الثعلبي في ‏[‏فقه اللغة‏]‏ ‏:‏ القهقري‏:‏ مشية الراجع إلى خلف، حتي قد قيل‏:‏ إنه إذا رأي البيت رجع فودع، وكذلك عند سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم لا ينصرف، ولا يمشي القهقري، بل يخرج كما يخرج الناس من المساجد عند الصلاة‏.‏

وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرِد، لكن عليه وعلي المتمتع هدي؛ بدنة، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم، فمن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر، وسبعة إذا رجع، وله أن يصوم الثلاثة من حين أحرم بالعمرة، في أظهر أقوال العلماء‏.‏ وفيه ثلاث روايات عن أحمد‏.‏ قيل‏:‏ إنه يصومها قبل الإحرام بالعمرة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يصومها إلا بعد الإحرام بالحج‏.‏ وقيل‏:‏ يصومها من حين الإحرام بالعمرة، وهو الأرجح‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه يصومها بعد التحلل من العمرة، فإنه حينئذ شرع في الحج، ولكن دخلت العمرة في الحج، كما دخل الوضوء في الغسل، قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏ ، وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا متمتعين معه، وإنما /أحرموا بالحج‏.‏

ويستحب أن يشرب من ماء زمزم، ويتضلع منه، ويدعو عند شربه بما شاء من الأدعية الشرعية، ولا يستحب الاغتسال منها‏.‏

وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام؛ كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، كمسجد المولد وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر‏:‏ عرفة، ومزدلفة، والصفا، والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومني، مثل جبل حراء، والجبل الذي عند مني الذي يقال‏:‏ إنه كان فيه قبة الفداء، ونحو ذلك، فإنه ليس من سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة‏.‏ وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار، والبقاع التي يقال‏:‏ إنها من الآثار، لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك بخصوصه، ولا زيارة شيء من ذلك‏.‏

ودخول الكعبة ليس بفرض، ولا سنة مؤكدة، بل دخولها حسن والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها في الحج، ولا في العمرة، /لا عمرة الجِعْرَانة، ولا عمرة القَضِية، وإنما دخلها عام فتح مكة، ومن دخلها يستحب له أن يصلي فيها، ويكبر اللّه، ويدعوه ، ويذكره، فإذا دخل مع الباب تقدم حتي يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع، والباب خلفه، فذلك هو المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخلها إلا حافيا، والحجر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه، فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة، وليس على داخل الكعبة ما ليس على غيره من الحجاج، بل يجوز له من المشي حافيا، وغير ذلك ما يجوز لغيره‏.‏

والإكثار من الطواف بالبيت من الأعمال الصالحة، فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم، ويأتي بعمرة مكية، فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، بل كرهه السلف‏.‏

 

فصل

وإذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده، فإنه يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه، والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلي المسجد الحرام، /والمسجد الأقصي، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وهو مروي من طرق أخر‏.‏

ومسجده كان أصغر مما هو اليوم، وكذلك المسجد الحرام، لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام‏.‏

ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فإنه قد قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم عَلَي، إلا رد اللّه على روحي حتي أرد عليه السلام‏)‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ وكان عبد اللّه بن عمر يقول إذا دخل المسجد‏:‏ السلام عليك يارسول اللّه، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف، وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه، ويسلمون عليه مستقبلي الحجرة، مستدبري القبلة، عند أكثر العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ وأبوحنيفة قال‏:‏ يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال‏:‏ يستدبر الحجرة، ومنهم من قال‏:‏ يجعلها عن يساره، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة، ولا يقبلها، ولا يطوف بها، ولا يصلي إليها، وإذا قال في سلامه‏:‏ السلام عليك يارسول اللّه، يانبي اللّه، ياخيرة اللّه من خلقه، يا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته،

بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا صلى عليه مع السلام عليه، فهذا مما أمر اللّه به‏.‏

/ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة‏.‏ ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك‏.‏ والحكاية المروية عنه ‏:‏ أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقت الدعاء،كذب على مالك‏.‏ ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده، فإنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت‏؟‏ أي بليت‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء‏)‏‏.‏ فأخبر أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب، وأنه يبلغ ذلك من البعيد‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه، من حجرة عائشة، وكانت هي وسائر الحُجَر خارج المسجد، من قبليه وشرقيه، لكن لما كان في زمن الوليد بن عبد الملك عُمِّر هذا المسجد وغيره، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز، فأمر أن تشتري الحجر، ويزاد /في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبنيت منحرفة عن القبلة مسنمة؛ لئلا يصلي أحد إليها، فإنه قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها‏)‏ رواه مسلم عن أبي مَرْثَد الغَنَوي‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وزيارة القبور على وجهين‏:‏ زيارة شرعية، وزيارة بدعية‏.‏

فالشرعية‏:‏ المقصود بها السلام على الميت، والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة أن يسلم على الميت، ويدعو له سواء كان نبيًا، أو غير نبي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم‏)‏‏.‏ وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع، ومن به من الصحابة أو غيرهم، أو زار شهداء أحد، وغيرهم‏.‏

وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين، بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبر أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة / المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي على القبور إما محرمة، وإما مكروهة‏.‏

والزيارة البدعية‏:‏ أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل‏:‏ زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله‏:‏ ‏(‏من زارني، وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على اللّه الجنة‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي، حلت عليه شفاعتي‏)‏ ونحو ذلك، كلها أحاديث ضعيفة، بل موضوعة، ليست في شيء من دواوين الإسلام، التي يعتمد عليها، ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولكن روي بعهضا البزار، والدارقطني، ونحوهما بأسانيد ضعيفة، ولأن من عادة الدارقطني وأمثاله، يذكرون هذا في السنن ليعرف، وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك، فإذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة نهي عنها عند قبره، وهو أفضل الخلق، فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أولي وأحري‏.‏

/ويستحب أن يأتي مسجد قباء، ويصلي فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من تطهر في بيته، وأحسن الطهور، ثم أتي مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كأجر عمرة‏)‏ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصلاة في مسجد قباء كعمرة‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏

والسفر إلى المسجد الأقصي، والصلاة فيه، والدعاء، والذكر، والقراءة، والاعتكاف، مستحب في أي وقت شاء، سواء كان عام الحج، أو بعده‏.‏ ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يفعل في سائر المساجد‏.‏ وليس فيها شيء يتمسح به، ولا يقَبل ولا يطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة، ولا تستحب زيارة الصخرة، بل المستحب أن يصلي في قبلي المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين‏.‏

ولا يسافر أحد ليقف بغير عرفات، ولا يسافر للوقوف بالمسجد الأقصي، ولا للوقوف عند قبر أحد، لا من الأنبياء، ولا المشايخ، ولا غيرهم، باتفاق المسلمين، بل أظهر قولي العلماء أنه لا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور‏.‏

ولكن تزار القبور الزيارة الشرعية، من كان قريبًا، ومن اجتاز /بها، كما أن مسجد قباء يزار من المدينة، وليس لأحد أن يسافر إليه لنهيه صلى الله عليه وسلم أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة‏.‏

وذلك أن الدين مبني على أصلين‏:‏ ألا يعبد إلا اللّه وحده لا شريك له، ولا يعبد إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ ‏.‏ ولهذا كان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول في دعائه ‏:‏ اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحد شيئًا‏.‏ وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالي‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ ‏.‏ قال‏:‏ أخلصه، وأصوبه‏.‏ قيل‏:‏ يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتي يكون خالصا صوابا‏.‏ والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة، وقد قال اللّه تعالي‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏21‏]‏ ‏.‏

والمقصود بجميع العبادات أن يكون الدين كله للّه وحده، فاللّه هو المعبود، والمسؤول الذي يخاف ويرجي، ويسأل ويعبد، فله الدين خالصًا، وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرهًا، والقرآن مملوء من هذا، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي‏}‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 164‏]‏ ‏.‏ وقال تعالي‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ‏}‏ الآيتين ‏[‏آل عمران‏:‏ 79،80‏]‏ ، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏ققُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ‏}‏ الآيتين‏.‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56،57‏]‏ ‏.‏

قالت طائفة من السلف‏:‏ كان أقوام يدْعُون الملائكة، والأنبياء، كالمسيح، والعزيز، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ الآيات‏.‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26 وما بعدها‏]‏ ‏.‏ ومثل هذا في القرآن كثير؛ بل هذا مقصود القرآن، ولبه، وهو مقصود دعوة الرسل كلهم، وله خلق الخلق، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏

فيجب على المسلم أن يعلم أن الحج من جنس الصلاة ونحوها من العبادات، التي يعبد اللّه بها وحده لا شريك له، وأن الصلاة على الجنائز وزيارة قبور الأموات من جنس الدعاء لهم، والدعاء للخلق من جنس المعروف والإحسان، الذي هو من جنس الزكاة‏.‏

والعبادات التي أمر اللّه بها توحيد وسنة، وغيرها فيها شرك/ وبدعة،كعبادات النصاري، ومن أشبههم مثل قصد البقعة لغير العبادات التي أمر اللّه بها، فإنه ليس من الدين، ولهذا كان أئمة العلماء يعدون من جملة البدع المتكررة السفر لزيارة قبور الأنبياء، والصالحين، وهذا في أصح القولين غير مشروع، حتي صرح بعض من قال ذلك أن من سافر هذا السفر لا يقصر فيه الصلاة؛ لأنه سفر معصية‏.‏ وكذلك من يقصد بقعة لأجل الطلب من مخلوق، هي منسوبة إليه، كالقبر، والمقام أو لأجل الاستعاذة به، ونحو ذلك، فهذا شرك وبدعة، كما تفعله النصارى ومن أشبههم من مبتدعة هذه الأمة، حيث يجعلون الحج والصلاة من جنس ما يفعلونه من الشرك والبدع، ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم لما ذكر له بعض أزواجه كنيسة بأرض الحبشة، وذكر له عن حسنها وما فيها من التصاوير، فقال‏:‏ ‏(‏أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة‏)‏ ‏.‏

ولهذا نهي العلماء عما فيه عبادة لغير اللّه، وسؤال لمن مات من الأنبياء، أو الصالحين، مثل من يكتب رقعة ويعلقها عند قبر نبي، أو صالح، أو يسجد لقبر، أو يدعوه، أو يرغب إليه‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس ليال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون /القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏ رواه مسلم، وقال ‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا‏)‏‏.‏ وهذه الأحاديث في الصحاح‏.‏ وما يفعله بعض الناس من أكل التمر في المسجد، أو تعليق الشعر في القناديل، فبدعة مكروهة‏.‏

ومن حمل شيئا من ماء زمزم جاز، فقد كان السلف يحملونه ، وأما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه، بل غيره من التمر، البرني والعجوة خير منه، والأحاديث إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏(‏من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يصبه ذلك اليوم سم، ولا سحر‏)‏‏.‏ ولم يجئ عنه في الصيحاني شيء‏.‏ وقول بعض الناس‏:‏ إنه صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم جهل منه بل إنما سمي بذلك ليبسه، فانه يقال‏:‏ تصوح التمر، إذا يبس‏.‏

وهذا كقول بعض الجهال‏:‏إن عين الزرقاء جاءت معه من مكة،ولم يكن بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عين جارية لا الزرقاء ولا عيون حمزة ولا غيرهما، بل كل هذا مستخرج بعده‏.‏

ورفع الصوت في المساجد منهي عنه، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب/ ـ رضي اللّه عنه ـ رأي رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد فقال‏:‏ لو أعلم أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، إن الأصوات لا ترفع في مسجده‏.‏ فما يفعل بعض جهال العامة من رفع الصوت عقيب الصلاة من قولهم‏:‏ السلام عليك يارسول اللّه ‏!‏ بأصوات عالية‏.‏ من أقبح المنكرات‏.‏ ولم يكن أحد من السلف يفعل شيئا من ذلك عقيب السلام بأصوات عالية، ولا منخفضة، بل مافي الصلاة من قول المصلي‏:‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، هو المشروع، كما أن الصلاة عليه مشروعة في كل زمان ومكان‏.‏

وقد ثبت في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏من صلى على مرة صلى اللّه عليه بها عشرا‏)‏‏.‏ وفي المسند‏:‏ أن رجلا قال‏:‏ يارسول اللّه، أجعل عليك ثلث صلاتي، قال‏:‏ ‏(‏إذًا يكفيك اللّه ثلث أمرك‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ أجعل عليك ثلثي صلاتي، قال‏:‏ ‏(‏إذا يكفيك اللّه ثلثي أمرك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أجعل صلاتي كلها عليك، قال‏:‏ ‏(‏إذا يكفيك اللّه ما أهمك من أمر دنياك وأمر آخرتك‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏‏.‏ وقد رأي عبد اللّه بن حسن شيخ الحسنيين في زمنه رجلا ينتاب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، للدعاء عنده، قال‏:‏ ياهذا، إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن /صلاتكم تبلغني‏)‏ فما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء‏.‏

ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه، في كل مكان وزمان، ولم يكونوا يجتمعون عند قبره، لا لقراءة ختمة، ولا إيقاد شمع، وإطعام وإسقاء، ولا إنشاد قصائد، ولا نحو ذلك، بل هذا من البدع، بل كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة، والقراءة، والذكر، والدعاء، والاعتكاف، وتعليم القرآن والعلم، وتعلمه، ونحو ذلك‏.‏

وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل عمل صالح تعمله أمته، فإنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من دعا إلى هدي فله من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا‏)‏‏.‏ وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، فكل خير يعمله أحد من الأمة فله مثل أجره، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أن يهدي إليه ثواب صلاة، أو صدقة، أو قراءة من أحد، فإن له مثل أجر ما يعملونه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا‏.‏

وكل من كان له أطوع وأتبع كان أولي الناس به في الدنيا والآخرة، قال تعالي‏:‏ ‏{‏قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ ، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آل أبي فلان ليسوا لي /بأولياء، إنما ولي اللّه وصالح المؤمنين‏)‏، وهو أولي بكل مؤمن من نفسه، وهو الواسطة بين اللّه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه‏.‏

واللّه هو المعبود المسؤول، المستعان به الذي يخاف ويرجي، ويتوكل عليه، قال تعالي‏:‏‏{‏وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏ ، فجعل الطاعة للّه والرسول، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ ، وجعل الخشية والتقوي للّه وحده لا شريك له، فقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏ ، فأضاف الإيتاء إلى اللّه والرسول، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ ، فليس لأحد أن يأخذ إلا ما أباحه الرسول، وإن كان اللّه آتاه ذلك من جهة القدرة، والملك، فإنه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في الاعتدال من الركوع، وبعد السلام‏:‏ ‏(‏اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُ‏)‏ أي‏:‏ من آتيته جدا وهو البخت والمال والملك، فإنه لا ينجيه منك إلا الإيمان والتقوي‏.‏

وأما التوكل فعلي اللّه وحده، والرغبة فإليه وحده، كما قال /تعالي‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ورسوله، وقالوا‏:‏‏{‏إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ولم يقولوا هنا‏:‏ ورسوله، كما قال في الإيتاء، بل هذا نظير قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏7،8‏]‏ ، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ حسبنا اللّه ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين ‏{‏قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ ‏.‏ أي‏:‏ اللّه وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك‏.‏

ومـن قـال ‏:‏ إن اللّه والمؤمنـين حسـبك فقـد ضـل، بل قولـه من جنس الكفرة، فإن اللّه وحده هو حسب كل مؤمن به‏.‏ والحسب الكافي، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏36‏]‏

وللّه تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق؛ كالعبادات، والإخلاص والتوكل، والخوف، والرجاء، والحج، والصلاة، والزكاة، والصيام، والصدقة‏.‏ والرسول له حق؛ كالإيمان به، وطاعته، واتباع سنته وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، وتقديمه في المحبة على الأهل والمال، والنفس، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، /لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين‏)‏، بل يجب تقديم الجهاد الذي أمر به على هذا كله، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏ ، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏62‏]‏ ‏.‏

وبسط مافي هذا المختصر وشرحه مذكور في غير هذا الموضع‏.‏ واللّه سبحانه وتعالي أعلم، وصلي اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد للّه رب العالمين‏.‏

/وَقَالَ ـ قدس اللّه رُوحه ‏:‏

 

فصل

وأما الحج، فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صفته وأحكامه‏.‏

وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين، وغيرهما‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحُلَيفَة ، فقال‏:‏ ‏(‏من شاء أن يهلّ بعمرة فليفعل، ومن شاء أن يهلّ بحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل‏)‏‏.‏ فلما قدموا وطافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل حتي يبلغ الهدي محله‏.‏ فراجعه بعضهم في ذلك فغضب‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏انظروا ما أمرتكم به فافعلوه‏)‏‏.‏ وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، فلم يحل من إحرامه‏.‏

/ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال،قال‏:‏ ‏(‏لو استقبلتُ من أمري ما اســتدبرتُ لما ســقت

الهدي، ولجعلتها عمرة، ولولا أن معي الهدي لأحللت‏)‏‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ ‏(‏إني لَبَّدْت رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتي أنحر‏)‏‏.‏ فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي، منهم‏:‏ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد اللّه‏.‏ فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج، وهم ذاهبون إلى منى، فبات بهم تلك الليلة بمنى، وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب، و‏[‏نمرة‏]‏ خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها، ليست من الحرم، ولا من عرفة، فنصبت له القبة بنمرة، وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده، وبها الأسواق، وقضاء الحاجة، والأكل، ونحو ذلك‏.‏

فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه، وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة، حيث قد بني المسجد، وليس هو من الحرم، ولا من عرفة، وإنما هو برزخ بين المشعرين‏:‏ الحلال والحرام هناك، بينه وبين الموقف نحو ميل، فخطب بهم خطبة الحج على راحلته‏.‏ وكان يوم الجمعة، ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين، مجموعتين، ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة،/واسمه ‏[‏إلال‏]‏ على وزن هلال‏.‏ وهو الذي تسميه العامة عرفة، فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس‏.‏

فدفع بهم إلى مزدلفة، فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة، وبات بها حتي طلع الفجر، فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مُغَلِّسًا بها زيادة على كل يوم، ثم وقف عند ‏[‏قزح‏]‏ وهو جبل مزدلفة الذي يسمي‏:‏ المشعر الحرام، وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن، فلم يزل واقفًا بالمسلمين إلى أن أسفر جدًا‏.‏

ثم دفع بهم حتي قدم منى، فاستفتحها برمي جمرة العقبة، ثم رجع إلى منزله بمنى فحلق رأسه، ثم نحر ثلاثا وستين بدنة من الهدي الذي ساقه، وأمر عليًا فنحر الباقي، وكان مائة بدنة، ثم أفاض إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة، وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة، قبل طلوع الفجر، فرموا الجمرة بليل، ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة، غير مجموعة، يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشـمس، يفتتـح بالجمرة الأولي ـ وهي الصغري، وهي الدنيا إلى منى، والقصوي من مكة ـ ويختتم بجمرة العقبة، ويقف بين الجمرتين الأولي والثانية، وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر اللّه ويدعو فإن المواقف ثلاثة‏:‏ عرفة، /ومزدلفة، ومنى‏.‏

ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات، هو والمسلمون فنزل بالْمُحَصَّب عند خيف بني كنانة، فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء‏.‏ وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم، وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة‏.‏ وقد بني بعده هناك مسجدا سماه الناس مسجد عائشة؛ لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة؛ لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت‏.‏ وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقضي ما يقضي الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة‏)‏‏.‏

ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة، ولم يقم بعد أيام التشريق، ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل إلا عائشة وحدها‏.‏

فأخذ فقهاء الحديث؛ كأحمد وغيره، بسنته في ذلك كله، وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفي عليه /فيه السنة‏.‏

فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة، استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سفرة واحدة، وأحرم في أشهر الحج‏.‏ كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعلموا أن من أفرد الحج، واعتمر عقبه من الحل ـ وإن قالوا‏:‏ إنه جائز ـ فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلا عائشة، على قول من يقول‏:‏ إنها رفضت العمرة، وأحرمت بالحج، كما يقوله الكوفيون‏.‏ وأما على قول أكثر الفقهاء‏:‏ أنها صارت قارنة‏:‏ فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك‏.‏

وكذلك علموا أن من لم يَسُقّ الهدي، وقَرَن بين النسكين لا يفعله‏.‏ وإن قال أكثرهم ـ كأحمد وغيره ـ‏:‏ إنه جائز، فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة، على قول من قال‏:‏ إنها كانت قارنة‏.‏

ولم يختلف أئمة الحديث ـ فقهاء، وعلماء؛ كأحـمد وغيره ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن مفـردا للحج، ولا كان متمتعا تمتعًا حل به من إحرامه‏.‏ ومن قال من أصحاب أحمد‏:‏ إنه تمتـع، /وحـل من إحرامه فقد غلط، وكذلك من قال‏:‏ إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط‏.‏

وأما من توهم من بعض الفقهاء‏:‏ أنه اعتمر بعد حجته، كما يفعله المختارون للإفراد إذا جمعوا بين النسكين ـ فهذا لم يروه أحد، ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإنه لا خلاف بينهم‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة؛ ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمساجد عائشة، حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هي ولا كان صلى الله عليه وسلم أيضا قارنًا قرانًا طاف فيه طوافين وسعي سعيين‏.‏ فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة‏.‏

فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد شيئا من هذه المقالات، فقد غلط‏.‏

وسبب غلطه‏:‏ ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد ـ منهم‏:‏ عائشة، وابن عمر وغيرهما ـ أنه صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج‏.‏ وثبت ـ أيضا ـ عنهم أنه أفرد الحج‏.‏/وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج، ثبت عنهم أنهم قالوا‏:‏ إنه تمتع بالعمرة إلى الحج‏.‏ وثبت عن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لبيك عمرة وحجا‏)‏‏.‏وعن عمر‏:‏ أنه أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أتاني آت من ربي ـ يعني بوادي العقيق ـ وقال‏:‏ قل‏:‏ عمرة في حجة‏)‏، ولم يَحْكِ أحد لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحرم به إلا عمر وأنس؛ فلهذا قال الإمام أحمد‏:‏ لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا‏.‏

وأما ألفاظ الصحابة، فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه، سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه‏.‏ فهذا التمتع العام يدخل فيه القِران؛ ولذلك وجب عليه الهدي عند عامة الفقهاء، إدخالا له في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏196‏]‏ ، وإن كان اسم ‏[‏التمتع‏]‏ قد يختص بمن اعتمر، ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته‏.‏

فمن قال منهم‏:‏ ‏[‏تمتع بالعمرة إلى الحج‏]‏ لم يرد أنه حل من إحرامه، ولكن أراد‏:‏ أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج، لكن لم يبين‏:‏ هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين، /أو أحرم بالحج بعد ذلك‏؟‏ فإن كان قد أحرم قبل الطوافين، فهو قارن بلا تردد، وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت‏.‏ وبالجبلين، وهو لم يكن حل من إحرامه، فهذا يسمي متمتعا؛ لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج، ويسمي قارنا، لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة؛ ولهذا يسميه بعض أصحابنا‏:‏ ‏[‏متمتعا‏]‏ ، ويسميه بعضهم‏:‏ ‏[‏قارنا‏]‏ ويسميه بعضهم بالاسمين، وهو الأصوب‏.‏ وهذا في التمتع الخاص، فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد‏.‏

ومع هذا، فالصواب ما قطع به أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج قبل الطواف؛ لقوله‏:‏ ‏(‏لبيك عمرة وحجا‏)‏‏.‏ ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ؛ لأن العمرة دخلت في الحج، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم

وإذا كانت عمرة المتمتع جزءا من حجه، فالهدي المسوق لا ينحر حتي يقضي التَّفَث، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ ، وذلك إشارة إلى الهدي المسوق، فإنه نذر؛ ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره؛ لأن نحره إنما يكون عند بلوغه محله، وإنما يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله؛ لأنه تبع له، وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر؛ إذ قبل ذلك لا يحل مطلقًا؛ لأنه يجب عليه أن يحج، بخلاف من اعتمر عمرة مفردة، فإنه حل حلا مطلقًا‏.‏

/وأما ما تضمنته سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المقام بمنى يوم التروية، والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة، ثم المقام بعرنة ـ التي بين المشعر الحرام وعرفة ـ إلى الزوال، والذهاب منها إلى عرفة والخطبة، والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنة ـ فهذا كالمجمع عليه بين الفقهاء، وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه، وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة‏.‏

ومن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة، بين الظهر والعصر، وبمزدلفة بين المغرب والعشاء، وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها‏.‏ ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها، ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر، وأن ينفردوا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين‏.‏ فإن هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن، وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وعليه يدل كلام أحمد‏.‏

وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي، وأحمد عن هذا، فطردوا قياسهم في الجمع، واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر، والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخًا، وحاضِروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد‏.‏

/وهذا ليس بحق، فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده، وقد أقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها، لا سيما ولم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا مرة واحدة، وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير، وإنما جمع لنحو الوقوف؛ لأجل ألا ي

فصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها‏.‏ كما قال أحمد‏:‏ إنه يجوز الجمع لأجل ذلك من الشغل المانع من تفريق الصلوات‏.‏

ومن اشترط في هذا الجمع السفر من أصحاب أحمد، فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشـافعي‏.‏ فإن أحمد يجوز الجمع لأمور كثيرة غير السفر، حتي قال القاضي أبو يعلى وغيره ـ تفسيرا لقول أحمد‏:‏ إنه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة ـ‏:‏ فالجمع ليس من خصائص السفر‏.‏ وهذا بخلاف القصر، فإنه لا يشرع إلا للمسافر‏.‏

ولهذا قال أكثر الفقهاء ـ كالشافعي وأحمدـ‏:‏ إن قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق لا يجوز إلا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم، طردا للقياس، واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف الجمع، حتي أمر أحمد وغيره‏:‏ أن الموسم لا يقيمه أمير مكة؛ لأجل قصر الصلاة‏.‏

وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم ـ منهم مالك، وطائفة /من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي الخطاب في عباداته الخمس ـ إلى أنه يقصر المكيون وغيرهم، وأن القصر هناك لأجل النسك‏.‏

والحجة مع هؤلاء‏:‏ أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من صلى خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة، كما أمرهم أن يتموا لما كان يصلي بهم بمكة أيام فتح مكة، حين قال لهم‏:‏ ‏(‏أتموا صلاتكم، فإنا قوم سَفْر‏)‏‏.‏

فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فأتموها أربعًا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعًا، ثم لما صلوا خلفه عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا، ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه ـ لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا‏.‏

ومما قد يغلط فيه الناس‏:‏ اعتقاد بعضهم أنه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر، حتي قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه، أخذا فيها بالعمومات اللفظية، أو القياسية‏.‏ وهذه غفلة عن السنة ظاهرة‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط‏.‏ وإنما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة‏.‏ فرمي جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم؛ ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بمنى؛ ولهذا خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر /بعد الجمرة، كما كان يخطب في غير مكة بعد صلاة العيد، ورمي الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام‏.‏

ومثل هذا ما قاله طائفة ـ منهم ابن عقيل ـ أنه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلي تحية المسجد، كسائر المساجد‏.‏ ثم يطوف طواف القدوم، أو نحوه‏.‏ وأما الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا‏.‏

أما أولا‏:‏ فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه‏.‏ فإنهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف، ثم الصلاة عقب الطواف‏.‏

وأما ثانيًا‏:‏ فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف‏.‏ كما أن تحية المساجد هي الصلاة‏.‏

وأشنع من هذا‏:‏ استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعي بين الصفا والمروة أن يصلي ركعتين بعد السعي على المروة، قياسًا على الصلاة بعد الطواف‏.‏ وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف، ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح‏.‏ فإن السنة مضت بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه طافوا وصلوا، كما ذكر اللّه الطواف والصلاة‏.‏ ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي، فاستحباب /الصلاة عقب السعي، كاستحبابها عند الجمرات، أو بالموقف بعرفات، أو جعل الفجر أربعا قياسا على الظهر‏.‏ والترك الراتب سنة، كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض، أو فوات شرط، أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ؛ كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد‏.‏ وتعلم العربية، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك ما يحتاج إليه في الدين، بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه أو وجود مانع‏.‏

فأما ما تركه من جنس العبادات، مع أنه لو كان مشروعا لفعله، أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده، والصحابة‏.‏ فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة، ويمتنع القياس في مثله، وإن جاز القياس في النوع الأول‏.‏ وهو مثل قياس ‏[‏صلاة العيدين، والاستسقاء، والكسوف‏]‏ على الصلوات الخمس، في أن يجعل لها أذانًا وإقامة، كما فعله بعض المراونية في العيدين‏.‏ وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت اللّه في الاستلام والتقبيل، ونحو ذلك من الأقيسة التي تشبه قياس الذين حكي اللّه عنهم أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ ‏.‏

وأخذ فقهاء الحديث ـ كالشافعي وأحمد وغيرهما مع فقهاء /الكوفة ـ ما عليه جمهور الصحابة والسلف بتلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبت عنه أنه لم يزل يلبي حتي رمي جمرة العقبة‏.‏

وذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وأهل المدينة ـ كمالك ـ إلى أن التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف بعرفة؛ لأنها إجابة‏.‏ فتنقطع بالوصول إلى المقصد‏.‏ وسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هي التي يجب اتباعها‏.‏

وأما المعني‏:‏ فإن الواصل إلى عرفة ـ وإن كان قد وصل إلى هذا الموقف ـ فإنه قد دعي بعده إلى موقف آخر، وهو مزدلفة‏.‏ فإذا قضي الوقوف بمزدلفة، فقد دعي إلى الجمرة، فإذا شرع في الرمي فقد انقضي دعاؤه، ولم يبق مكان يدعي إليه محرما؛ لأن الحلق والذبح يفعله حيث أحب من الحرم، وطواف الإفاضة يكون بعد التحلل الأول‏.‏

ولهذا قالوا ـ أيضًا ـ بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه يلبي بالعمرة إلى أن يستلم الحجر، وإن كان ابن عمر ومن اتبعه من أهل المدينة ـ كمالك ـ قالوا‏:‏ يلبي إلى أن يصل إلى الحرم، فإنه وإن وصل إليه فإنه مدعو إلى البيت‏.‏

/نعم، يستفاد من هذا المعني‏:‏ أنه إنما يلبي حال سيره، لا حال الوقوف بعرفة ومزدلفة وحال المبيت بها‏.‏ وهذا مما اختلف فيه أهل الحديث‏.‏

فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، فاتفق من جمع الأحاديث الصحيحة عليه‏.‏

واختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد الذي صاده الحلال، وذكاه، على ثلاثة أقوال‏:‏

فقالت طائفة من السلف‏:‏ هو حرام، اتباعا لما فهموه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عليكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أنه رد لحم الصيد لما أهدي إليه‏.‏

وقال آخرون ـ منهم أبو حنيفة‏:‏ بل هو مباح مطلقا، عملا بحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي، وأهدي لحمه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأنه لم يصده له، كما جاء في الأحاديث الصحيحة‏.‏

وقالت الطائفة الثالثة ـ التي فيها فقهاء الحديث ـ بل هو مباح للمحرم، إذا لم يصده له المحرم، ولا ذبحه من أجله؛ توفيقا بين الأحاديث، كما روي جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ /‏(‏لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم‏)‏‏.‏قال الشافعي‏:‏ هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقيس‏.‏ وهذا مذهب مالك، وأحمد، والشافعي، وغيرهم‏.‏

وإنما اختلفوا إذا صيد لمحرم بعينه، فهل يباح لغيره من المحرمين‏؟‏ على قولين، هما وجهان في مذهب أحمد، رحمه اللّه تعالى‏.‏